عندما كان جمال حمدان بصدد توسعه كتابه " اليهود" وتحويل الكتاب الصغير – 145 صفحة بحجم الجيب – لمرجع ؛ قتل فى حادث غامض فى شقته ، وليست هذه محاولة لإضافة أهمية للكتاب فمحتوى الكتاب كافى جدًا لتدرك أهميته لكل مهتم بالقضية العربية
يبدأ حمدان من سؤال حول ما قد تظن أنه حقيقة ثابتة : هل نحن واليهود أولاد عم ؟؟ ، هل يهود اليوم هم بنى إسرائيل أى من نسل النبى يعقوب ؟؟ إن الفكرة متأصلة تمامًا فى العقل العربى بمافيه سياسيه ومثقفيه ، " ورغم أن الثابت فى القانون الدولى أن ترك شعب لوطنه آلافًا سحيقة من السنين لا يمكن إلا أن يحرمه كل حق فى المطالبة بالعودة إليه الآن ، ورغم أن الفقهاء الدوليين يسخرون من مجرد فكرة إعادة تشكيل الخريطة السياسية للعالم على أساس غزوات وهجرات وتوزيعات الماضى الغابر " يقول حمدان " فإن فكرة قرابة العرب واليهود قد يمكن أن تلقى بعض ظلال على قضيتنا المصيرية "
يبدأ جمال حمدان بتاريخ اليهود بقوم النبى إبراهيم – 1800 ق.م – وأول علاقة لهم بفلسطين عندما هاجروا إليها وعبروا النهر – الفرات أو الأردن – فسموا بالعبرانيين ، وكانت فلسطين هى أرض كنعان وهى قبيلة عربية سكنت فلسطين حوالى 2500 ق.م ، ووجدوا أيضًا الآراميين على حدود فلسطين من ناحية سوريا حاليًا ، أما الفلسطينيين ، وهم من منحوا الارض إسمها الحالى فجاءوا بعد العبرانيين من جزر البحر المتوسط ، وبعد 150 عامًا فقط هاجر يعقوب النبى – إسرائيل – وأولاده إلى مصر بسبب القحط واستقروا بأرض جاشان – بالشرقية حاليًا – لمدة حوالى 350 عامًا حتى خرج بهم موسى عليه السلام – 1300 ق.م – وكان عددهم وفقًا للتوراة 600 ألف ، وبعد اليته لأربعين عامًا فى سيناء دخل بهم يوشع بن نون فلسطين وسيطروا على جزءًا من أرض كنعان ليس من ضمنها يبوس – القدس –
ثم وحد داود القبائل – الأسباط - اليهودية عام 1000 ق.م وبسطوا نفوذهم على مساحة واسعة من الأرض من ضمنها يبوس التى سميت بأورشليم ، ولكن مملكة إسرائيل تلك التى لم تصل للساحل سرعان ما انقسمت بعد سليمان عليه السلام إلى مملكتين ، يهوذا جنوبًا وإسرائيل شمالاً والطريف أن حدودهما تتفقان لا مع حدود اسرائيل الحالية بل مع حدود الضفة الغربية ! ، اصبحت المملكتان متعادياتان حتى قضى سرجون الأشورى – 720 ق.م – على الشمالية ، وقضى نبوخذ نصر البابلى -586 ق.م - على الجنوبية مدمرًا أورشليم
نقل سرجون بعض اليهود إلى بابل ونقل بعض أسراه من الأمم الأخرى لفلسطين ، بينما نقل نبوخذ نصر ما يقارب ربعهم – وكان عددهم الكلى ثلاث أرباع المليون – إلى بابل فيما يعرف بالأسر البابلى ، وبعد هزيمة بابل بيد الفرس سمح لليهود بالعودة ، ولكن عدد قليل هو الذى عاد والبقية ظلت بالعراق مكونة جالية يهودية كبيرة تعرضت فيما بعد للإبادة بيد المغول ولكنهم كانوا نواة الشتات شرقًا ، إلى فارس وأفعانستان وماوراء النهر ، وربما أيضًا توجه بعض العائدين من بابل غربًا إلى المغرب وإن كان البعض يرجع يهود المغرب لتحول القبائل البربرية إلى اليهودية قبل الإسلام
ومع ما يعرف بالعصر الهلللينى – عصر الاسكندر والبطالمة والبيزنطيين – تشتت أغلب اليهود فى هذه الإمبراطورية ، وكانت مراكزهم الكبرى فى مصر وسوريا وآسيا الصغرى والبلقان ، ومع تعدد ثورات يهود فلسطين ، قام الحكم الرومانى عامى70 م و 135 م بمذابح قتلت حوالى 600 ألف منهم ! و هجر المقيمين فى فلسطين ومنعوا من دخول القدس وكان عدد المهجرين 40 ألف توجهوا إلى إيطاليا وفرنسا وأسبانيا وألمانيا وتركزوا بأعداد كبيرة فى فرانكفورت بالذات
وإذا علمنا أن عدد اليهود فى القرن الخامس الميلادى قدر بحوالى 4- 7 ملايين فها معناه أن اليهود تضاعف عددهم الأصلى – 40 ألف – 100 إلى 180 مرة فى أقل من 500 عام مما يدل على ان هذه الزيادة كانت بالتحول والتبشير وليس بالتناسل !
ومع الحملات الصليبية طرد اليهود واضهدوا فى أوربا ، وتوجه يهود ألمانيا الذين يكونون ما يعرف باليهود الأشكناز – 80 -90 % من اليهود – بالهجرة لبولندا والتقوا باليهود فى جنوب روسيا وبقايا دولة الخزر والذين كانوا مضطهدين كذلك من روسيا ، أما يهود أسبانيا أو مايعرف بالسفرديم فطردوا مع العرب فى حروب الاستراد فى نهاية عصر الأندلس عام 1492 م إلى بعض دول اوربا ولكن بشكل اكبر إلى المغرب العربى وباقى الدولة العثمانية خاصة البلقان
الفصل التالى فى الشتات اليهودى هو هجرتهم للعالم الجديد – أمريكا الشمالية بالمقام الاول – منذ اكتشافه والتى استمرت فى تيارات اخرها أثناء اضطهاد النازية الالمانية لهم وينهى جمال حمدان رحلة الشتات بقوله : غير أن المستقبل القريب جدير أن يثبت أن إسرائيل لن تكون إلا مجرد مرحلة فى رحلة الشتات التاريخية مجرد جملة إعتراضية فى تاريخ فلسطين وقريب هو لا شك الخروج الجديد
ينتقل حمدان بعد هذا إلى توزيع اليهود فى العالم الحديث ، الأعداد طبعًا وفقًا لعام 1966 ولكن يوجد تحديث للأرقام فى طبعة دار الهلالعبد الوهاب المسيرى ، ويلاحظ تركز اليهود فى كل من أمريكا وروسيا واسرائيل ، ثم بصفة عامة فى العالم الجديد ، وأن اليهود سكان مدن بشكل كبير جدًا ، ومدن كبرى على وجه الخصوص وهذا يرجع لتفضيل اليهود للعمل بالتجارة أو الاعمال الحرة وليس الزراعة أو الصناعة ، وظل اليهود متركزين فى المدن فى منطقة محددة تكاد تكون مغلقة عليهم وهو ما يعرف بالجيتو أو حارة اليهود ، أحيانًا بفعل السلطات وأحيانًا يختار اليهود ذلك بأنفسهم رغبةً فى التركز والاحتشاد فى ملحق بتحرير الراحل
ثم يأتى بعد هذا الجزء الأهم فى الكتاب والغاية منه ، حتى أن الكتاب فى طبعة دار المعارف يسمى اليهود انثربولوجيا ، هذا الجزء يتناول علميًا إن كان هناك علاقة بين يهود اليوم ويهود التوراة ، بنى إسرائيل ،وحقيقة الدعاية بأن اليهود ليسوا فقط اتباع دين واحد بل هم من نفس الجنس والعرق الذى منه يهود التوراة ولم يخلطوا وظل جنسهم نقيًا ، ويبدأ حمدان ببيان صفات يهود التوراة الجسمية ثم صفات يهود اليوم ، مميزًا بين الصفات التى تخضع للبيئة والنشأة وتتأثر بها وبين التى تظل ثابتة تنتقل بالوراثة
فيهود التوراة هم مجموعة سامية من سلالة البحر المتوسط ، نرى فيهم سمرة الشعر وتوسط القامة وطول إلى توسط الرأس ، أما يهودى اليوم فالشائع عنه أنه قصير القامة والحقيقة أن اليهود كانوا دائمًا معدل طولهم أقصر من المجتمع الذى يعيشون فيه مع بعض الاستثناءات بالعكس ، ولكن معدل طولهم ليس واحدًا فى العالم كله ، والطول صفة تتاثر بالبيئة والتغذية وحياة الجيتو هى التى صنعت هذا الفرق ولذلك فى عالم اليوم يتلاشى هذا الفارق فى الطول ، وسمرة الشعرولون البشرة تنتشر وتقل بين اليهود وفقًا للمجتمع الذى يعيشون فيه ، المفاجأة أن الأنف اليهودى المعقوف ليس منتشرًا بين اليهود بل بالعكس ، والصفات السابقة كلها تتدخل فيها الظروف البيئية وتؤثر فيها
أما الصفة الوراثية التى لاتتأثر سوى غير بالوراثة وتعد دليل حاسم فى دراسات الجنس البشرى فهى شكل الرأس ، وإذا كان يهود التوراة طوال الرؤوس فإن كل عراض الرؤوس يكونوا إما ليسوا من نسلهم أو من نسل مختلط ، بينما طوال الرؤوس لا ينفى عنهم الاختلاط لإنهم ربما كانوا مختلطين مع أجناس أخرى طويلة الرأس
فإذا نظرنا إلى الأشكناز الذين يمثلون 80 – 90 % من اليهود اليوم فإنهم عراض الرؤوس ، وأحيانًا عراض الرؤوس جدًا ، بينما السفرديم بشكل عام طوال الرؤوس ، وهو ما لا ينفى اختلاطهم حيث أنهم يعيشون فى مجتمعات ناسها من طوال الرؤوس ،أما الشرقيين فيتنوع فيهم شكل الرأس بين هذا وذاك
إذن اليهود اليوم ليسوا من أصل جنسى واحد وليسوا فئة نقية غير مختلطة ، والدراسات السيرولوجية – دراسات الدم - تبين تفاوت كبير بين اليهود فى فئات الدم ، وشبه انقطاع تام عن يهود السامريين القدامى ،فاليهود إذن كما يؤكد العلماء ليسوا جنسًا ، بل مجرد ناس ، مجرد مجموعة دينية – إجتماعية
والاختلاط جاء إما عن طريق التحولات الدينية إما بشكل موسع كالخزر والفلاشا أو بشكل فردى ، وإما عن طريق التزاوج العلنى أو السرى ودلائل الاختلاط موجودة تاريخيًا ، خاصة أن رفض التزاوج بين اليهود والجنتيل – الاميين أو غير اليهود - لم يكن رفضًا جنسيًا بل دينيًا ينتهى بتحول الجنتيل لليهودية ، والرومان سبوا كثير من اليهوديات كأسيرات ونشأ ابناء الأسيرات يهود وفقًا لعقيدة الأم ، وقبل المسيحية حافظ اليهود على اعدادهم بالتبشير بين الوثنين ، وقرارات العصور الوسطى التى تحرم الزواج من اليهود بل واستخدامهم كخدم خشية الاختلاط والتزاوج معهم يدل على أن التزاوج كان يمثل ظاهرة متفشية
فالأمر إذن هو أن أعداد تدخل فى اليهودية وأعداد تخرج من اليهودية وليس هناك كتلة ثابتة تمثل جنسًا أو عرقًا وبالتالى مثلا تكون معاداة اليهود ليست معاداة للسامية فهذا غير حقيقى تمامًا
هذه النظرة الفريدة لليهود والتى طرحها جمال حمدان فى كتاب صغير جدًا وبإسلوب سهل ومنظم تستحق منك أن تقرأها وتستحق منا جميعًا أن نؤكد عليها أمام العالم ؛ فكما قال حمدان فى مقدمة الكتاب "إن الحق والحقيقة فى جانبنا على حد سواء"